النثـــــــــــــــــــــــر فنون النثر وتطوره فيالقرن العشرين بعد
الذي تقدم ذكره، يمكن القول: إن القرن التاسع عشر لم يكن إلا مرحلة الإرهاص
بالتطورات الحقيقية الكبيرة التي سيشهدها الأدب العربي في القرن العشرين، ولم
يتجاوز ما تم إنجازه فيه حدود «تمهيد الأرض» لزروع التجديد التي ستؤتي أكلها ناضجة
- أو شبه ناضجة - في القرن العشرين لسائر أنواع الأدب أو أجناسه حسبما هو معروف في
الآداب العالمية. ومن حيث الأسلوب كان النثر في القرن التاسع عشر مثقلاً بالمحسنات
البديعية وبالسجع، بل إن محاولات لإحياء فن المقامة قد جرت على يد الشيخ ناصيف
اليازجي. ومن جهة المضمون كان النثر يعنى بالقضايا الاجتماعية والسياسية ولكن
بطرائق الوعظ الأخلاقي وبالنقد التهكمي الساخر الذي يتناول المظاهر أكثر مما
يتناول الجواهر، ويرى الباحث في أدب
العرب في القرن العشرين
أن ذلك كله قد تم تجاوزه. فالاتصال بالغرب حرض على إدخال التطوير على الأنواع
الأدبية القديمة، كما حرض على ظهور فنون نثرية جديدة بقوالب تعبيرية جديدة.
وفي ما
يلي عرض موجز لأهم هذه الفنون والتطورات الحاصلة عليها:
المقـــالة: من
المعلوم أن المقالة نشأت في أحضان الصحافة. ولعل أول من استعمل مصطلح «مقالة» هو
أحمد فارس الشدياق حين كتب في مجلة الجوائب «مقالة في أصل النيل». وكانت الصحف عند
نشأتها تعنى بالمقالة الافتتاحية وتنشرها في صدر صفحتها الأولى، وتعالج فيها
موضوعاً رئيسياً، غالباً ما يكون سياسياً. ووسع ظهور المجلات من ميادين المقالة
وأثر في تطورها وتنوع موضوعاتها التي تمس الحياة العامة، وصارت مقالات معظم الكتاب
تجمع في كتب لحفظها من الضياع وتيسير سبل الاطلاع عليها من قبل الأجيال اللاحقة.
وقد درج النقاد على تقسيم المقالة بحسب مضامينها إلى عدة أنواع: سياسية واجتماعية
وأدبية، ثم توسعت هذه المضامين تبعاً لاتساع فروع المعرفة فأضيفت إليها المقالات:
الفكرية والفلسفية والإنسانية والنفسية والدينية والنقدية. ومن جهة أخرى قسمت
المقالات إلى نوعين: المقالة الذاتية، والمقالة الموضوعية.
فالمقالة
الذاتية يعالج فيها الكاتب موضوعاً محدداً يعكس انطباعه عنه، إذ تتحكم في الكتابة
هنا عواطف الكاتب وانفعالاته الذاتية ويغلب تصوير وجهة نظره الشخصية بأسلوب عفوي.
ومن الطبيعي أن تتفاوت المقالات هنا بتفاوت موضوعاتها، واختلاف شخصية كل كاتب، من
حيث وضوح الأداء وعمقه وجماله. أما المقالة الموضوعية فتختلف في أن الكاتب يعالج
فيها موضوعاً يرجع فيه إلى المنطق والعقل ومنهجية الأداء، فيكون للمقالة مقدمة ثم
عرض فمناقشة فاستنتاجات ثم خاتمة. ويدور الموضوع حول قضية علمية أو فلسفية أو
اجتماعية أو سياسية أو نقدية.
ومن
أبرز من كتب المقالة الذاتية بعواطف رقيقة، وسعة خيال، وتصوير فني شفيف، وجمل
موسيقية قصيرة، مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابيه «النظرات» و«العبرات»، وجبران خليل
جبران في كتبه «دمعة وابتسامة» و«العواصف» و«البدائع والطرائف» وماري مي زيادة في
«سوانح فتاة» و«ظلمات وأشعة». وقد بدأ هذا اللون من المقالة الذاتية يتناقص بعد
الخمسينات من القرن العشرين، وإن كان هذا لا ينفي وجود كتّاب له في كثير من أقطار
الوطن العربي.
وفي
لون آخر من المقالة الذاتية اعتمد كثير من الكتاب أسلوباً فكاهياً يقوم على
التصوير الساخر الذي يداخله القص وتميزه حيوية الأداء، وأبرز من كتب المقالة من
هذا اللون في القرن التاسع عشر هو أحمد فارس الشدياق في كتابيه «الساق على الساق
في ما هو الفارياق» و«كشف المخبا عن فنون أوربة». أما في القرن العشرين فأبرز
هؤلاء الكتاب هو إبراهيم عبد القادر المازني في كتبه «قبض الريح» و«من النافذة»
و«حصاد الهشيم»، ومع أن هذا الكتاب الأخير هو مجموع مقالات نقدية إلا أن السخرية
التهكمية في نبرته واضحة كما أن ذاتية الكاتب هي إحدى سماته البارزة. وهذا مؤشر
على التداخل ما بين نمطي المقالة: الذاتي والموضوعي.
وثمة
لون ثالث يتميز بعمق الأفكار والتأنق في الألفاظ والتصوير البياني، والخيال
الشاعري وأبرز كتابه في القرن العشرين مصطفى صادق الرافعي في «وحي القلم» وفي
«حديث القمر» إذ يجد القارئ هنا بعض الغموض والتعقيد في الصور وأسلوب الأداء.
ومع
ازدهار الصحافة العربية وارتقاء التعليم وتطور الأدب في القرن العشرين تزايد
كثيراً عدد الأدباء الذين يكتبون المقالة الذاتية التي تلامس قضايا موضوعية
ومشكلات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو معاشية.. حتى لا يكاد المرء يجد أديباً
عربياً في سائر البلاد العربية لم يمارس كتابة هذا اللون من المقالات في صحيفة أو
مجلة ما، وهو أمر يطول حصره واستقصاؤه.
ومن
مشاهير كتاب المقالة الموضوعية - وهي لا تخلو بطبيعتها من ملامح ذاتية - أحمد أمين
في كتابه «فيض الخاطر»، وطه حسين في كثير من كتبه منها «حديث الأربعاء» و«تجديد
ذكرى أبي العلاء» ومحمد كرد علي، ومحمد حسين هيكل، وميخائيل نعيمة في «البيادر»
و«النور والديجور» و«الغربال»، وعباس محمود العقاد، والمازني في كتاب «الديوان»...
وغيرهم كثير.
ومع
التطورات المعقدة في الحياة والأدب العربيين بعد الخمسينات على وجه التخصيص كثر
عدد كتاب المقالة الموضوعية إذ تقوم حياة الصحف والمجلات بأنواعها عموماً على هذا
اللون من المقالة التي يشارك في كتابتها الصحفيون والأدباء على حد سواء. وقد نشطت
المحاضرات وبرامج الإذاعات والتلفزة المعنية بالأدب، وهذه كلها في الأصل مقالات
مطورة لتلائم هذه الصيغة أو تلك من وسائل إيصال الأدب إلى الجمهور. وربما أمكن
أيضاً إدخال الندوات في هذا الباب. ولا يزال الكتاب المعاصرون يجمعون مقالاتهم في
كتب جرياً على ما كان قد سبقهم إليه جيل الرواد في القرنين التاسع عشر والعشرين
ممن سبق ذكر أسماء مشاهيرهم. وإذا كان المقام هنا لا يتسع لذكر الأعداد الجمة من
الأدباء الذين يكتبون المقالة الموضوعية اليوم في مختلف البلاد العربية إذ توجد
مئات من الأسماء، فإنه مما يجدر ذكره أن المقالات قد يطول بعضها وتتسع أفكاره
ولاسيما في المجلات المتخصصة فتصبح المقالة أقرب إلى البحث الأدبي القصير الذي
يتضمن أجزاء كثيرة، كل جزء منها يعالج جانباً من ذلك البحث أو فكرة من أفكاره.
الخطــابة:
اتسع مجال الخطابة في العصر الحديث وتنوعت موضوعاتها أو أساليبها إثر قيام الحركات
الوطنية وتأسيس الجمعيات والنوادي الأدبية والمنابر الأخرى. وممن برزوا في هذا
المجال في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عبد الله النديم وأديب
إسحاق ومصطفى كامل وأمين
الريحاني ومي زيادة. ثم ازداد انتشارها في المناسبات القومية والحزبية والسياسية،
والمؤتمرات المحلية والدولية. وقد أعان على انتشارها المذياع والتلفاز. وفضلاً عن
الخطب الدينية في الجمع والأعياد، هناك من أشكال الخطبة: المحاضرة التي سبق ذكر
أنها تقارب المقالة، فهي في واقع الأمر تجمع بين شكلي هذين الفنين من فنون النثر.
وهناك خطب المناسبات المختلفة والأحاديث الإذاعية والمتلفزة، كما أن للندوات
مدخلاً في هذا الباب. والخطابة بمدلولها الأصلي أصبحت في هذه الأيام مقصورة على
السياسة إذ يوجه السياسيون خطبهم إلى الشعب في كل قطر في مناسبات معينة ويتم نقلها
للناس الذين لم يحضروا وقائع المناسبة عبر الأجهزة المسموعة والمرئية. ويكاد
الجانب الأدبي يختفي من هذه الخطب إذ ينصب هم الخطيب الذي غالباً ما يكون رجل دولة
على شرح الأوضاع السياسية المحلية والعربية والدولية للناس في المجتمع المحلي وفي
مختلف الأقطار العربية الأخرى. وقد برز في العصر الحديث طائفة من الخطباء المفوهين
جلهم من الزعماء السياسيين والقادة منهم
عبد الرحمن الشهبندروالرؤساء
جمال عبد الناصر و
حافظ الأسد و
هواريبومدين.
.